بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق وأشرف المرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لقد اختار المغاربة عن وعي تام وببصيرة نافذة العقيدة الأشعرية ثابتا من ثوابت المغرب ومكونا من مكوناته الدينية ومعلما من معالمه الثقافية والحضارية، وقد حرص فحول المالكية على الربط بين الفقه والعقيدة في كتبهم ومؤلفاتهم كما هو الشأن بالنسبة لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته، وكذلك فعل القرافي في الذخيرة بإفراد العقيدة بكتاب الجامع ، وكما قرر الإمام ابن عاشر في منظومته الشهيرة بقوله:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك.
وقد جاء هذا الاختيار لعقيدة الأشعري مؤسسا على أدلة قوية، ومبنيا على أصول ثابتة، ومؤيدا ببراهين ساطعة، إذ العقيدة الأشعرية هي المنهج الذي اختاره أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، وعلى ذلك شواهد كثيرة نكتفي منها بقول صاحب المذهب نفسه الإمام الأشعري في كتابه “الإبانة” حيث يقول رحمه الله تعالى: “قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، “[1].
وهي كذلك عقيدة الوسطية والاعتدال ، فهي المنهج الوسط والطريق الأوفق بين مذاهب المعطلة “المعتزلة” -القائلين بالتنزيه المطلق إلى درجة إثبات صفة الوحدانية ونفي ما سواها من صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة – وبين مذاهب المجسمة المثبتين لذات الله العلية كل صفة من صفات مخلوقاته المحدثات، يقول مالك الصغير الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى في ثنائه العطر على الإمام الأشعري عليه الرضوان: ” ما الأشعري إلا رجل مشهور بالرد على أهل البدع وعلى القدرية والجهمية متمسك بالسنن “[2].
أضف إلى ذلك أن العقيدة الأشعرية تجمع بين العاطفة والعقل، فقد تميز الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في منهجه بالجمع بينهما ؛ ذلك أنه كان يعتمد مخاطبة عواطف المرء وأحاسيسه بمنهج النقل، ثم هو بعد ذلك يدعم خطابه الروحي هذا بالأدلة العقلية والحجج المنطقية في دحض أقوال المخالفين وفي الانتصار إلى مذهبه الحق، وهذا التوسط ما بين الخطاب العاطفي الروحي الهادئ ، والخطاب العقلي القوي ، جعل منهج الأشاعرة بعيدا كل البعد عن الغلو والتطرف والتشدد.
ثم إن المنهج الأشعري إلى جانب المذهب المالكي والتصوف السني كان له إسهام كبير في خلق انسجام مذهبي وعقدي وسلوكي في المغرب جنبه كثيرا من القلاقل والفتن التي كانت تقع في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب الخلافات العقدية الحادة والصراعات المحتدمة التي سالت فيها دماء غزيرة بسبب تكفير المخالف، وبالرغم من وجدود بعض التيارات العقدية والفكرية بالمغرب إلا أن هيمنة العقيدة الأشعرية جعلت التعبير عن الخلاف محصورا في نطاقه العلمي والسجالي، خاصة والسادة الأشاعرة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة.
ومما جعل أهل المغرب من أشد الناس تشبثا بالفكر الأشعري اعتقادهم بأن “الأشعرية” هي الفرقة الناجية الوارد ذكرها في حديث النبي عليه الصلاة والسلام “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتيين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله ومن هم؟ قال: الجماعة”[3]، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمهما الحديث النبوي الصحيح الوارد في حق المغرب “لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة “[4].
هذه بعض الأسباب التي دعت المغاربة إلى اختيار المنهج الأشعري في الاعتقاد، وهناك أسباب أخرى سنفصل الحديث فيها في المقالة المقبلة إن شاء الله تعالى.
هذا ونسأل الله تعالى أن يلهمنا الحق والصواب وأن يثبتنا على المنهج القويم، والصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين.
——————————————————————————————————————–
[1] -الإبانة في أصول الديانة تحقيق د. فوقية حسن طبعة دار الأنصار الطبعة الأولى سنة 1977 ص: 20.
[2] -تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر طبعة دار الفكر ص43.
[3] -سنن ابن ماجه، تحقيق الشيخ مصطفى أبو المعطي، دار الغد الجديد، الطبعة الأولى، سنة 2017، ص: 790، رقم الحديث: 3992.
[4] -صحيح مسلم رقم الحديث: 1925، دار قرطبة، الطبعة 2، سنة 2009، ج2، ص: 926.