بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه،
وبعد: فمن المتفق عليه في الشرائع السماوية؛ حفظ الكليات الخمس؛ وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وهي الضروريات كما ذكر الإمام الشاطبي: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين. [1]ولا جدال في أولوية حفظ الدين؛ باعتباره أصل الكليات، والحكمة من الخلق؛ قال ﷲ تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب)(الشورى / 13)، يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن: “ومعنى ﴿شرع ﴾ أي نهج وأوضح وبين المسالك[2].
فالدين سبيل لمعرفة الخالق، وطريق للوصول لأحكام الشرع، ولما كان المقصد من الخطاب التكليفي تحقيق العبودية الحقة لرب العالمين؛ كان لزاما أن يتناول القواعد المنظمة لشؤون الدين، جمعا بين الحسنتين في الدنيا والآخرة ،لذا يلاحظ عناية الشريعة الإسلامية ببناء الدولة ووجوب طاعة ولي الأمر؛ قال اﷲ تعالى:( يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ) (النساء / 59)
ولهذا منع الخلاف المفضي إلى التدابر، ونبذ الفرقة، وحض على التلاحم واجتماع الكلمة؛ قال اﷲ تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ).( آل عمران /103) ولهذا كان للإمام مكانة في السياسة الشرعية لكونه القائم على أمر الناس والمسؤول الأول عن حراسة الدين، والإمام في الاصطلاح: هو الذي له الرياسة العامة في الدين والدنيا جميعا[3]، وطاعته واجبة حفاظا على مكانة الأميـر؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريـرة عن النبي ﷺ قال: من أطاعني فقد أطاع اﷲ، ومن يعصني فقد عصى اﷲ، ومن يطع الأميـر فقد أطاعني، ومن يعص الأميـر فقد عصاني”.[4]
والثوابت الدينية للمملكة المغربية؛ كانت الخيط الناظم لما قامت به إمارة المؤمنين من وظائف؛ لتحقيق الوحدة تجاه العناصر الأساسية المكونة للهوية الدينية: العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني الجنيدي؛ يقول ابن عاشر في نظمه:[5]
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
ولذلك فإن إمارة المؤمنين تعتبر مرتكزا أساسيا ومهما في رعاية المدرسة الأشعرية، والمذهب الفقهي المالكي، والتصوف السني؛ فهي ـ إمارة المؤمنين ـ الوعاء الجامع، والسند القوي لهذه الثوابت عبر التاريخ.
إن كيان الأمة؛ يحتاج لنظام يقوم بالحفاظ على الثوابت الدينية الجامعة لكل أفراده، إقامة لدين اﷲ على الأرض، وتحقيقا لمبدإ الاستخلاف، ولذلك شرعت البيعة للإمام؛ ففي الصحيح من حديث عبد اﷲ بن عمر يقول: سمعت رسول ﷲ ﷺ يقول: “من خلع يدا من طاعة، لقي اﷲ يوم القيامة، لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”.[6]
وأوجب الشارع السمع والطاعة له في المنشط والمكره، ما لم يأمر بمعصية ﷲ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والعهد يكون بين الأمة وأميـر المؤمنين؛ الذي يسوس الرعية بموجب عقد البيعة الشرعي القائم على جوهر حراسة الدين، وتطبيق أحكام اﷲ تعالى فوق أرضه وبين عباده، وقد عاش المسلمون تحت سلطان إمارة المؤمنين، منذ عهد الخليفة الراشد أميـر المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم استمر نظام إمارة المؤمنين بصور متفاوتة القرب والبعد من حقيقة النظام بعد ذلك من قبل الخلفاء والأمراء والملوك، وقد ظهر هذا النظام مجددا في إفريقيا بعد أن دخل الأشراف الكرام أرض المغرب، وقدوم الذرية الطيبة من آل بيت رسول ﷲ عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، ولقد تبنى المولى إدريس نظام إمارة المؤمنين بعد ما بايعه أهل المغرب، تأسيسا على البيعة الشرعية في المدينة المنورة مهاجر النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلوات اﷲ وسلامه عليه .
وقد قامت إمارة المؤمنين في المغرب على أسس شرعية صحيحة، وتولى أمرها أهل العلم والورع ودوحة الشرف، وأقاموا أركان الدولة على ثوابت دينية تجمع الأمة عقيدة ومذهبا ومنهجا وسلوكا؛ فساد المذهب المالكي واستوطن إفريقيا، وتعلقت ساكنة هذه الأرض بالعقيدة الأشعرية الوسطية القائمة على تقديس النص واحترام العقل، وسلكوا طريق تزكية النفوس عبر التصوف السني بلا غلو ولا تفريط، وشكلوا منهجا متوازنا يقوم على الثوابت الدينية المشتركة، والانفتاح على الآخر، دون تخل عن الأصول والمميزات للمجتمع المسلم.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يحفظ مولانا أمير المؤمنين، وأن يوفقه لحفظ الملة والدين، آمين والحمد لله رب العالمين.